أدب الأخطاء الفاضحة Blunder Literature

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
01/04/2008 06:00 AM
GMT



ها نحن نتأمل العراق لحظة انصرام سنوات خمس عجاف مترعة بالحمق والدم والكراهية. ماذا يفعل العراقي مثلي، المُقصى أو المنفي مرتين، مرة من عراق صدام، وثانية من عراق الطوائف البربرية والاحتلال، غير تأمل مسيرة الأحزان هذه. ليست المشكلة من أين نبدأ الكتابة، ولا كيف نستمر فيها، بل كيف نتوقف عنها إزاء هذا الحشد من الكوارث المتراكمة أبداً، وهذه الطبقات من الألم الإنساني، وهذا الكمّ من الأفكار واللاأفكار والأهواء المضطرمة.
وكما هو متوقع لم ينــــتج العالم العربي سوى مواقف وشرح للمواقف، وتصعيد للعــــاطفة في المواقف. وتنطلق كل العواطف من الســــياسيين والإعلاميين في تسابق مزرٍ. الأنكى من ذلك أن الأكاديمـــيين والمتخصصين بالبحث يحاكون الإعلاميين في تعطيل التفكير بمجرد الانخــــراط في الأهواء، المتعارضة، والانحباس في لغة الشطب. وكما هو الحال في كل وضع، ثمة أبعاد لا حصر لها، يمكن للمرء، على هواه، ان ينتــــقي منها ما يثبت أو ما ينفي تبعاً لموقعه. وبينــــما يعكف الباحثون على المعاينة، والتدقيق، وتقليب الأمور، يعكف ســـياسيون على البحث عن «خطيئة أولى»، أو تبرير الذات. ينطبق هذا بدرجة أكــبر على ســــيل الكتب الصادرة عن العراق الأميركي، أو عراق ما بعد الغزو. ولا حاجة بالمرء لأن يعتصر قوى تفكيره كي يرى، ويسمع، ويـــدرك، أن المـــشروع الأميركي قد فشل. لكن هذا الفشل عينه، ســــواء انتــهى بالانسحاب، أو المراوحة في المكان، لا يعــني قط أن هذا البلد المنكود، المتخاصم مع نفسه أبداً، أو أن هذه الرقعة (سيان أسمـــيناها العالم العربي، أو الشرق الأوسط، أو المــــشرق، الخ) سيعودان الى سابق عهدهما قبل الغزو.
نعرف جميعاً أن الولايات المتحدة، أو بتحديد أدق «المحافظون الجدد» الذين صاغوا سياساتها بنفوذ متعاظم منذ واقعة 11 أيلول (سبتمبر)، كانوا يحلمون بـ «ثورة ديموقراطية» ينفذونها ويصوغونها بحرية تامة انطلاقاً من العراق، وأن هذا الحلم تكشف عن جهل بالعراق تاريخاً ومجتمعاً وثقافة وسياسة، وجهل بتعقيدات رقعة حضارية في واحدة من أكثر لحظاتها التباساً وتشابكاً واشتباكاً.
نعرف أيضاً ان مراكز الأبحاث المتخصصة تصنف العراق في خانة «الدول الفاشلة»، أي دولة بلا دولة، على غرار الصومال وأشباهه من الدول التي انهارت فيها هياكل السلطة، وعادت القهقرى الى حال «حرب الجميع ضد الجميع».
إزاء هذا الوضع شهدت الولايات المتحدة ظهور عدد من الكتب التي وضعها سياسيون وديبلوماسيون أو إعلاميون ممن خدموا في العراق بعد الغزو، أو ممن شاركوا في خطط الخارجية الأميركية لبلورة ما يعرف باسم «مشروع مستقبل العراق»، ويغطي المشروع نحو 13 مجلداً في قرابة 2000 صفحة، شارك فيها أكثر من 240 منفيا عراقيا، بينهم أسماء معروفة. هناك أيضاً مساهمات من صحافيين مستقلين كمراسل صحيفة «نيويوركر»، جورج باكر، ومراسل «الواشنطن بوست» انطوني شديد. وقد سنحت للعالم العربي الفرصة للاطلاع على ترجمة عربية لبعض هذه الكتب، منها كتاب حاكم العراق بول بريمر، («سنتي في العراق») الذي صدر بترجمتين.
أول هذه الكتب كتاب: الحرب وأخلاق بناء الأمة للحقوقي النيويوركي نوح فيلدمان، الذي عمل مستشاراً دستورياً لبول بريمر، وثانيها «داخل فضيحة إعادة بناء العراق بعد الحرب» للديبلوماسي ديفيد فيليبس الذي عمل في مشروع «مستقبل العراق»، وثالثها كتاب للموظف الأميركي مارك اثرنغتون بعنوان «ثورة على دجلة»، وقد عمل في مدينة الكوت على مشروع بناء سلطة محلية.
هناك أيضاً كتاب «النصر المضاع» للأكاديمي لاري دايموند، وهو زميل لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، وأحد أهم المتخصصين بقضايا بناء الديموقراطية في العالم. وهناك أيضاً كتاب الصحافي جورج باكر، المعنون «بوابة الاغتيال: أميركا في العراق»، وأخيراً كتاب أنطوني شديد «الليل يرخي سدوله: شعب العراق في ظل الحرب الأميركية».
ولا يزال دفق الكتب مستمراً، مذكراً إيانا بسيل مماثل من المؤلفات التي وضعها الضباط البريطانيون الذين حكموا العراق بعد احتلال عام 1917. سبق ذلك أيضاً كتب أخرى منها مذكرات الجنرال تومي فرانكس، قائد قوات السنتكوم، وقائد حملة احتلال العراق، ومنها أيضاً كتاب مهم يدور حول استقالة مدير الاستخبارات المركزية تينيث، تحاشياً لفضيحة تقاريره الكاذبة عن العراق، تلك التقارير التي جانبت الحيدة المهنية، ورضخت لمطالب السياسي بليّ الحقائق.
مال الذي يجمع بين هذه الكتب، المهمة بما تحويه من مادة أولية ضرورية للباحث؟ يصف المؤرخ البريطاني المتخصص بالعراق، بيتر سلكليت، هذه الكتب بأنها «أدب الأخطاء الفاضحة»، أي الأدبيات التي تكشف ما اكتنف تخطيط وتنفيذ السياسة من حمق، وارتباك، وأخطاء. وعلى رغم أن بعض هذه الكتب وضع بنوع من الرغبة في إعفاء النفس من الخطأ، أو السعي الى إيجاد «خطيئة أصلية» تقف وراء كل الكوارث، فإنها وثائق مهمة، لعل الفكرة الأبرز هي نقد دوغمائية المحافظين الجدد الذين توهموا العراق لوحة بيضاء يمكن لهم أن يدونوا عليها ما يشتهون. أما الفكرة الثانية الأبرز فهي عجرفة البنتاغون، بالذات خيلاء وزير الدفاع المستقيل دونالد رامسفيلد صاحب نظرية «الحرب الفائقة التكنولوجيا».
معروف أن رامسفيلد وقف بصلابة بوجه وزير الخارجية السابق كولن باول الذي أصر على وجوب أن يكون غزو العراق «قانونياً»، أي ان يعتمد على تفويض، لم يحصل، من الأمم المتحدة. كما عمل رامسفيلد، بحسب «أدب الأخطاء الفادحة» على إبعاد كل الأبحاث التي قامت بها الخارجية عن النظام السياسي والقانوني والعسكري للعراق، منطلقاً من فكرة مبسطة: الحرب التكنولوجية الفائقة ستكتسح العراق بسهولة، وتفتح الباب لوضع الأصدقاء (وبالذات أحمد الجلبي) على رأس حكومة صديقة، تدير العراق، وتسمح للأميركيين بالانسحاب سريعاً. ولما كان العراق بلداً نفطياً، فإن بوسعه تمويل إعادة البناء دونما حاجة الى أن تتحمل الخزانة الأميركية أعباءها، بحسب رأيه.
بل ان «الحرب التكنولوجية الفائقة» بحسب رامسفيلد لا تتطلب سوى مئة ألف الى مئة وخمسين ألف جندي، بدل إرسال نصف مليون جندي مما طالب به تومي فرانكس وبقية الخبراء العسكريين، لغرض حماية الحدود، وضبط الأمن، ومنع دول الجوار، وبخاصة إيران، الخصم الأكبر للولايات المتحدة، من الإفادة من اختلال موازين القوى بتدمير الجيش العراقي خلال الحرب.
ويجمع «أدب الأخطاء الفادحة» على حماقة حل الجيش، وعلى التصارع المؤسساتي بين الخارجية والدفاع، وعلى القرارات المرتجلة، المرتبكة، التي كانت تزيد الوضع سوءاً يوماً بعد آخر.
وعلى رغم أهمية هذا الأدب لجهة ما يحيوه من وثائق ومعاينة ميدانية لأفراد عملوا في الماكينة التي أوصلت العراق الى ما هو عليه، فإنه يقصر عن رؤية اللوحة الكبرى، ويركز على الأخطاء العملياتية، أخطاء التخطيط والتنفيذ التفصيلي، ساهياً عن أن العلة الأكبر تكمن في «عقيدة بوش» لمكافحة الإرهاب، والاعتقاد الساذج بأن الديموقراطية وحدها هي الحل، ثم الاعتقاد بأن بالوسع بناء هذا الحل من طريق الحرب والحرب وحدها. فالمنطقة تعيش في حال سياسي ما قبل حديث: أنظمة ثيوقراطية، أو أوتوقراطية ذات طابع ديني، أو أنظمة حداثية تقوم على نظام الحزب الواحد، أو مجتمعات بلا دولة، على الغرار الفلسطيني، تتشوف الى تحققها في دولة-أمة، كل ذلك يجري في منطقة يجتاحها التغير الاقتصادي–الاجتماعي العاصف (نمو المدن، تحديث الاقتصاد، الخ) في مقابل جمود سياسي يربأ بأي تعديل، متدرج، يواكب المتغيرات الأخرى، كما ان ذلك يجري في مجتمعات انهارت فيها اليوتوبيات اليسارية والقومية العلمانية لتحل محلها يوتوبيات دينية، محاربة، من كل شكل ولون. الأنكى ان بناء الأمة في هذه الرقعة كان ولا يزال يواجه أزمة انتماء، وأزمة تخاصم بين الدولة كجهاز حكم وإدارة، وبين الأمة كجماعة متشاركة.
محنة العراق تشي بكل هذه التعقيدات، مثلما تشي ببعد الإدارة الأميركية عن واقع الحال في رقعتنا العربية – الإسلامية. ان «أدب الأخطاء الفاضحة» لا يزال شحيحاً، لكنه مرشح للنمو. وهو يقدم لنا مادة مثيرة لضعف فهم الولايات المتحدة للوضع في المنطقة، وقدرة هذه الأخيرة على الاعتراض. هل يستطيع العالم العربي إنتاج أدبه الخاص بـ «الأخطاء الفاضحة»، ارتقاء من الاحتفاء بالقدرة على التعطيل الى القدرة على بناء تطور عقلاني يتجاوز عالم الركود القائم؟